هذه قصة غلام لم تذكر كتب التاريخ مجرد اسمه ، بل ظلت بطولته في بطون الكتب لا يلتفت إليها ..
قصة غلام مصري أصيل يحمل كل علامات النجابة والفطنة والذكاء ، وسمات الإنسان المصري من عزيمة وصلابة وقدرة علي التحدي دون خوف أو رهبة أو وجل ..
كان الزمان ، زمن حملة بونابرت علي مصر في العام 1798م ، كان " ساري عسكر الفرنساوية " يحلم ببناء إمبراطورية فرنسية في الشرق تكون قاعدتها مصر يقطع بها الطريق بين إنجلترا ـ عدوه اللدود ـ وبين أهم مستعمراتها في الهند درة التاج البريطاني ..
نابليون بونابرت
والمكان قرية مصرية بسيطة أهلها فقراء نزل فيها الجنرال " ديزيه " أحد قادة الحملة تعذيباً وتقتيلاً ، دمر "ديزيه" القرية علي رؤوس أهلها ، وشرد منهم من شرد واستولي علي المؤن و" الخزين " وأشاع بين أهلها الرعب ورسخ بين دروبها عساكره ينهبون كل ما يقع تحت أبصارهم ..
القرية هي قرية " الفقاعي " إحدي قري مركز ببا من أعمال مديرية بني سويف ..
توغلت حملة ديزيه في ربوع القرية بناء علي أوامر " بونابرت " ..
الجنرال ديزيه
لم يهنأ " ديزيه " بأفعاله التي فاقت كل حد ، وأقض مضاجعه خبر يطالعه كل يوم علي وجوه جنوده وصراخهم يملأ أجواء المعسكر الذي ضربه علي مشارف القرية :
ـ لقد ضاعت بنادقنا ..
تحروا الأمر وبحثوا في كل درب عن سبيل يخرجهم من هذا النفق المظلم بعد أن صاروا لقمة سائغة بين أيدي السكان فقد أضحوا بلا سلاح ..
بعد فحص وتمحيص ، وبحث واستدلال لم يصلوا لأدني إجابة ، إلا الصدفة فقط والحظ العاثر هي التي أوقعت بطلنا الذي لم يبلغ الثانية عشرة ، فقد لمحه أحد الجنود الفرنسيين يدس السلاح بين تلافيف ملابسه ، فقد كان يرتدي جلباباً بسيطاً ، طار الجندي الغلام الصغير ، لم يستطع اللحاق به إلا بعد لأي ، أمسك بتلابيبه بعد أن ضربه بسيف معه فجرح ذراعه ، ثم ساقه أمامه ليقدمه صيداً سهلاً للقائد الذي انتظر علي شوق مثل هذا اللقاء ، تقدم الغلام الجريح بخطي ثابتة وقلب ملؤه الشجاعة والإقدام والجنرال الضخم الجثة يقلب نظراته فيه ثم نظر للجندي الفرنسي وقال :
ـ هذا هو من تريدني أن أقتص منه ؟
هز الجندي برأسه موافقاً ، ظاناً أنه قد جاء بما لم يأت به الأوائل :
ـ نعم سيدي ..
رجع الجنرال برأسه للخلف ، وكان معتدلاً في جلسته ، فوضع ساقاً فوق أخري ساخراً منه وهو يقهقه :
ـ ياللعجب ، تقدم أيها الغلام ..
تقدم الغلام تكلله أكاليل الغار في رباطة جأش منقطعة النظير أمام طاغية من كبار رجالات الحملة ولم تلن له قناة :
ـ اعترف وإلا قطعت رأسك ..
كان صوت الجنرال قاسياً ، وارتفعت ثانية عقيرة الجنرال وراح يرغي ويزبد ، والغلام ثابت مثل نخيل مصر لا يتزعزع رغم ما ناله من العذاب ومن الضرب المبرح ، ومن الويل والوعيد والتهديد ، لم يخف ولم يرتعد ولم يتراجع عن موقفه قيد أنملة ، والجنرال يصب جام غضبه ولعناته :
ـ من حرضك ؟ قل لي وسوف أعفو عنك ..
لم ينطق الغلام ببنت شفة ، كانت جروحه تنز بالدماء من أثر الإصابة ومالحق به من ضرب ..
كان الصبي عاري الجسد تماماً والبرد الشديد يلحق به الألم بقسوة ، والجنرال بكامل هيئته وبذلتهالعسكرية والمعطف الثمين ، والغلام حافي القدمين ، وثمة جندي يكاد أن يقبض عليه موجهاً لظهره البندقية خشية أن يهرب ، ومن حوله حشد من الجنود المسلحين بأحدث ما أنتجته أوروبا من عتاد حربي ..
وعاد الجنرال وسط دخان سيجاره الفخم يردد علي مسامع الغلام كلمات ناعمة كي يعترف علي من دفعه لتلك الفعلة ، لم يجد إجابة سوي أن الغلام قالها بكل شجاعة وهو يوجه نظراته نحو السماء :
ـ إن الله القادر علي كل شئ هو الذي أمرني بذلك ..
أعاد الجنرال سؤاله علي الغلام مرة أخري ولكنه كان بلهجة أخري يشوبها التهديد ، اشتد غيظه ونفرن عروق رقبته وراح ينفث الدخان مصعداً إياه لأعلي وتتجه نظراته في كل الأنحاء يضرب كفاً بكف في عجب وانتفخت أوداجه بالحنق الشديد :
ـ قل لي بحق السماء أيها الغلام ، قل ، قل ولا تخف ..
لم يخف الغلام ولم يتخلي عن ثباته ودون أدني وجل قال :
ـ لم يحرضني أحد ، وإنما ألهمني الله أن أفعل ما فعلت ..
لم يتوقع الجنرال ديزيه إجابة كتلك بالمرة ولكنه فوجئ بها ، علي الفور سرت في دمه قشعريرة أو حمي ، كاد يسقط من عليائه أما ثقة الغلام بنفسه ، بل قدم الغلام طاقيته للجنرال وقال :
ـ دونك رأسي فاقطعوه ..
خارت قوي الجنرال الضخم الجثة ، كاد السيجار أن يحرق أطراف أصابعه فراح يتلمظ غيظاً ، ودون أدني وعي أو تماسك أصدر أوامره :
ـ اجلدوه ، اجلدوه ثلاثين جلدة ...
كان الجنرال قد خرج عن وقاره وهو يواجه غلاماً لم يبلغ الحلم ، وتحمل الصغير ضربات السياط في صبر وجلد دون أن يتأوه أو يتململ حتي استوفي الثلاثين سوطاً..
تري ماذا كتب الجنرال " بليار" رفيق "ديزيه" في الحملة علي قرية الفقاعي وهو يدون يوميات الحملة :
ـ إن هذا الغلام إذا عُني به وبتربيته في قابل الأيام لصار له شأناً آخر ، فهو شخصية فريدة نادرة المثال ..
أما الرحالة المسيو " فيفان دينون" فحكي في رحلته قصة هذا الغلام :
" الغلام جري بأسرع مما يستطيع وهو يخفي السلاح تحت جلبابه ، ولم يقف إلا بعد أن أصابه الجندي بجرح أحدثه السيف في ذراعه "..
ولا زلنا مع فيفان دينون :
" وجئ به أمام الجنرال ديزيه فأستجوبه ، فأجاب بما أجاب ، ثم خلع طاقيته وأعطاها للجنرال وطلب منه أن يفصل في مصيره "..
وعاد دينون يكمل :
"وظل الغلام طوال الوقت هادئاً هدوءاً عجيباً ، لقد أبدي قوة خلق نادرة " .
أما الجنرال الذي لم يخلو قلبه من القسوة ولم يتورع عن إصدارالحكم الأشد قسوة فقد كان في حال من الضعف لا يضاهي ولا يمكن وصفه أمام الغلام فهل ترفق به علي مايبدو وراعي صغر سنه أم ماذا ؟
لقد تقدم الصبي لتنفيذ الحكم فيه وانحني طواعية أمام الجلدات علي ظهره دون أن يصرخ أو يذرف دمعة واحدة ..
وبعد كل هذا ، هل يحق لنا أن نسأل عن اسم هذا البطل الصغير أو عن اسم الفصيل الذي ينتمي إليه ، أو تلك المنظمة التي يعمل تحت رايتها ، أو حتي مجرد ذكر ديانته سواء كان مسلماً أوقبطياً ، فيكفينا فخراً أنه ينتمي لثري هذا الوطن العظيم الذي يجري عشقه في دمانا ، ولوحه الطاهرة أسمي آيات التحية والفخار